حين قال هيكل مبارك أمانة فى ضمير كل مصرى

Heikal- wikipedia

وأخيراً فإن الرجل الذى وضع الشعب على كتفيه مسئولية مصر تاريخياً وحاضراً ومستقبلاً هو بدوره أمانة فى ضمير كل مصرى ولنا جميعاً أن نتطلع إليه فوق كل الأزمات وفوق كل الخلافات وفوق كل الاجتهادات.

وفى هذه الظروف فهو الحَكَم قبل أن يكون الحاكم.

وكان الله فى عونه.

محمد حسنين هيكل متحدثا عن الرئيس السابق محمد حسني مبارك في مقال نشره في أخبار اليوم بعنوان “سلطة التحقق وسلطان الحقيقة: مبارك أمانة في ضمير كل مصري” الأول من مارس 1986

نص المقال

سلطة التحقق وسلطان الحقيقة: مبارك أمانة في ضمير كل مصري

موضوع “صنع القرار السياسى فى مصر” وهو الموضوع الذى عالجته فى حديثين سابقين – ما زال لهما ثالث وأخير – يمكن تأجيله فعندما تكون هناك طوارئ أحداث، تتغير الأولويات ويكون للطارئ أن يتقدم على المقيم.

وقد عاشت القاهرة أربع ليال طويلة نزل فيها ظلام لم يقطعه إلا وميض طلقة رصاص، ولفها صمت لم يقاطعه غير لسان حريق، ونزل عليها وجوم لم يبدده إلا تمسكها بعقلها يفكر ويتدبر، وبإيمانها يعطيها الأمل والثقة واليقين بأنها أزمة أخرى تأخذ ضريبتها وتمر تاركة وراءها تجربة تضاف إلى تجارب، والأمم العظيمة بتجاربها، والأمم الباقية بطاقتها على الاحتمال.

وفى مثل هذه الظروف فإن الأمم كلها تقف وراء قياداتها التى تحمل المسئولية وتتمتع بالشرعية، فهذه القيادات تصبح المرجع الأخير والطليعة الأولى والرمز التاريخى.

وفى ظروف عادية أو طبيعية فإن الحوار مع القيادات حق، وفى الظروف الطارئة فإن الوقوف معها هو الواجب الوحيد.

والوقوف مع القيادة الشرعية فى ظروف الطوارئ ليس حفلة زار تدق دفوفها وطبولها الهستيرية، وإنما يكون الوقوف بالمشاركة، وما تعنيه المشاركة من تبعات.

والمشاركة فى ظروف الطوارئ لها وسائل ثلاث وليس أربعاً: مشاركة باليد تعمل، أو مشاركة بالمشاعر تتعاطف بالوجدان وحتى إلى درجة الذوبان، أو مشاركة بالتفكير تفتح باباً أو تشير إلى طريق.

والمشاركة باليد فى العمل لها أصحابها، والمشاركة بالمشاعر مشاع لكل الناس، وتبقى المشاركة بالتفكير لمن يتجاسرون عليه، شرط ألا يتجاوزوا الحد وشرط ألا يجمح بهم الخيال فإذا ما يقولونه مضيعة للوقت على السامع والقائل معاً.

وإذا سمحت لنفسى وتجاسرت على التفكير – ومن باب الاجتهاد وراء قيادة شرعية تحمل أمانة وطنها بإخلاص ونزاهة – فقد أقول:

إن هناك ضرورة تدعونا إلى إلقاء نظرة سياسية على كل ما حدث دون أن تؤثر هذه النظرة السياسية له على النظرة القانونية بما فيها المسئولية الجنائية عما وقع وعما ترتب على وقوعه!

وبمعنى أوضح فإن الجانب القانونى فيما حدث مهم، لكن الجانب السياسى ليس أقل أهمية، ولذلك فقد يكون مناسباً أن تطرح للبحث فكرة إمكانية تشكيل لجنة تحقيق خاصة يعهد إليها ببحث الجانب السياسى فى قضية “شغب” وحدات الأمن المركزى.

أريد أن أقول أن التحقيق الجنائى مهم – فهذا حق القانون ولكن التحقيق السياسى أهم – فهذا حق المجتمع، والمجتمع هو صانع القانون وليس العكس.

بمعنى آخر فإن القانون له سلطة الاتهام والعقاب، لكن المجتمع له سلطان الحقيقة الأكبر والأوسع.

فى تفكيرى – بكل ما قلت – مجموعة ملاحظات حول “حوادث الشغب” – التى انفجرت فى عدد من معسكرات الأمن المركزى – أطرحها على النحو التالى:

1- إن الأمن المركزى هو أكبر أجهزة الأمن المدنية وأن يجرى فيه ما جرى فمعنى ذلك أن نقطة البداية كانت انهياراً فى الانضباط وهذه مسألة خطيرة.

2- إن حدوث انهيار فى الانضباط على هذا النحو فى أكبر أجهزة الأمن – نتيجة لما وصف بأنه “إشاعات كاذبة” – ظاهرة تستوقف النظر، فالإشاعة عادة تبدأ فى بؤرة صغيرة محصورة لكنها تحتاج – خصوصاً فى دقة انضباط جهاز أمن – إلى وقت تسرى فيه ويتفاعل ما تقول به مع مناخ يقبل تصديقه.

وفيما نسمع فإن المواقف تأزمت فجأة وهو شىء غير واضح.. إلا إذا كانت هناك عوامل أخرى لم تصل إلى أسماعنا.

فإذا كانت المواقف لم تتأزم فجأة وإنما تصاعدت – فماذا حدث عند الدرجة الأولى من التصاعد، وعند الدرجة الثانية؟ وفوقهما؟ – وهو سؤال مهم.

3- إن جهاز الأمن المركزى هو المكلف بالأمن الداخلى، وأن يهجر جنوده ثكناتهم مهما كانت الأسباب ثم يكون تصرفهم التالى هو الاندفاع إلى الشغب فى حين أن مهمتهم الأولى هى التصدى له – فهذه مسألة أكبر من انهيار انضباط ومن المفاجأة أو التصاعد فى أزمة بسبب إشاعة.

4- ليس من السهل التسليم بتفسير يضع المسئولية على عناصر تحريض أثارت وهيجت، فنحن أمام جهاز أمن جرى إعداده وتدريبه – وحتى تسليحه – على مواجهة عناصر التحريض التى تندس وسط الكتل الواسعة وأن يقع مثل هذا الجهاز فى نفس المأزق الذى أعد ودرب وسلح ليتصدى له بالذات – فهذه إشكالية تمس البنية ذاتها ويصعب أن تكون نتاج دقائق أو ساعات!

5- وليس ضرورياً – فى رأيى – أن تتوجه الظنون إلى إثارة من الداخل أو الخارج، إلا إذا قام دليل – فلو أن الانفجار حدث فى تجمع شبابى أو جماهيرى لجاز الظن، ولو أن الدائرة اقتصرت على حفنة أفراد لقام الاحتمال أما والانفجار فى أكبر جهاز أمن داخلى والمتهمون فيه ألوف (والقتلى عشرات والجرحى مئات) – فإن الحيطة أولى والحذر لازم.

6- ولا يستطيع أحد أن يتجاهل إمكانية أن يكون لمصر أعداء – وقد يكون بينهم بعض من يظهرون لها الود وبالطبع فإن الفتنة أول ما يخطر على البال،ومع ذلك فمن الصعب تصور وصول طرف منهم إلى جهاز فى حجم الأمن المركزى وأن يبلغ منه ما بلغ، فليس سهلاً “أن يغص بالماء شاربه” على هذا النحو وعلى حد تعبير “ابن خلدون” ببصيرته النافذة!

7- ربما نلاحظ أن ما حدث فى حقيقته كان أكثر من شغب، وربما كان أقرب إلى الانفجار منه إلى الشغب، فقد تلاحقت وتداعت أفعال وراء بعضها: خروج من الثكنات ومحاولة لإحراقها وهجوم على الفنادق القريبة منها ومحاولة تدميرها، وعدوان على المحال العامة والخاصة ومحاولة لاستباحتها، ثم اقتحام سجن وفتح زنازينه وإخراج مسجونين منها – وأسوأ من ذلك كله استعمال السلاح والرد على نار الطاعة بنار العصيان – وكلها تصرفات تزيد عن حد الشغب المتعارف عليه (تظاهر – إلقاء أحجار إلى آخره).

وعندما تصل الأمور إلى هذه الحدود المتفجرة – فهناك إذن ما هو أعمق من الشغب وأخطر.

8- إن أجهزة الإعلام راحت طوال الأيام الأخيرة تستحث ضمائر الناس تحت شعار: “لمصلحة من؟” وهذا فى ظنى توجيه اختصاص لغير مختص، فالأمن المركزى جهاز من أجهزة السلطة وحدها وطاعته أو عصيانه هى مسئوليتها وليس مسئولية غيرها.

وصحيح أن أفراده من أبناء الشعب، لكن الصحيح أيضاً أنهم شباب تولته الدولة لسنوات معينة، وفى إطار معين، ولخدمة معينة رأتها هى وقررتها واتخذت أساليبها وطرائقها بما فيها منطق عزل مشاعر هؤلاء الشباب وهم يؤدون مهامهم، عن أن تلتحم أو تتصل بانفعالات شارع قد يواجهونه بالقوة فى لحظة شر أو تدبير.

(يقتضى الإنصاف هنا إشارة إلى أن الإعلام الرسمى كان هذه المرة أكثر استنارة).

9- وإذا كان الهدف من شعار “لمصلحة من؟” هو تعبئة الناس – ما دام اختصاصهم فى الأمر غير وارد – فضد من التعبئة ولأى هدف؟ وما الذى يحدث إذا فقد الناس ثقتهم فى واحد من أهم أجهزة الأمن الداخلى؟ مع العلم بأنه ما زال مكلفاً بمهامه – وإذا كانت القوات المسلحة قد نزلت إلى العاصمة لحفظ الأمن فهذه ضرورة موقف.. لكن ضرورة موقف لا يمكن أن تصبح عادة كل يوم لأن القوات المسلحة لديها مهام أخرى يتعلق بها الشرف الوطنى كله.

10- وقد أضيف – وأنا أتحسب أن استقالة بعض المسئولين واردة – أن جوهر القضية أبعد وأكبر – فالاستقالة قبول بالمسئولية المباشرة وتحمل لأثقالها بالاستحقاق أو بالتطوع – لكن المجتمع له أسباب تتخطى كل المسئوليات وتتعداها إلى ما وراء القانون وربما إلى ما قبله.

وفى كل الأحوال، فاستقالة بعض المسئولين مخرج تنفيذى بينما الحاجة ملحة إلى مدخل سياسى لكى نستوعب بالضبط ما جرى.

هذه النقاط العشر التى عددتها ظواهر ليست هينة أو بسيطة ودلالاتها ومعانيها أبدى وأهم من حوادثها ووقائعها.

وهنا وقبل نتائج التحقيق لابد أن نجد معالم الحقيقة، ليس بالنيابة العامة وحدها ولكن بالسياسة أيضاً، وليس بالقانون وحيداً ولكن بالمجتمع كله.

ولقد أضيف بعد ذلك أن نظام لجان التحقيق السياسية نظام معروف ومتبع فى كل الديمقراطيات حين تجد طوارئ قد يكون لها جانبها القانونى لكن إطارها أوسع من مواد القانون وصياغاتها المحكمة وفى الولايات المتحدة – على سبيل المثال – يوجد نظام اللجان الرئاسية الخاصة، يشكلها الرئيس لتتولى بحث قضايا استثنائية طارئة لها طابع عام يمتد إلى أوسع مما تطوله القوانين واللوائح.

وفى التجربة الأميركية تتكون هذه اللجان الرئاسية الخاصة فى العادة من أفراد معدودين من الشخصيات العامة بخبرات متنوعة، ثم يحدد لها ما يسمونه Term of refence أى “مشارطة تكليف” ثم تعطى مدة معينة لا تتجاوزها لتقدم ما توصلت إليه إلى الرئيس نفسه.

وذلك إطار يختلف عن لجان تقصى الحقائق البرلمانية.

ففى اللجان البرلمانية قد تمد المصالح الحزبية تأثيرها وقد تتعطل الرؤى بين أغلبية وأقلية – أما اللجان الرئاسية التى تستمد تكليفها من قمة الدولة وتقدم إليها مباشرة – فإن إطارها يصبح قومياً وعملياً وموضوعياً.

وقلت فى بداية هذا الحديث أنها أزمة تقتضى ضريبتها وتمر – لكن الأزمات بغير “حصيلة تجربة” هى ضرائب على غير رأسمال ولا أرباح، ثم إن المجتمع الذى لا يدرس أزماته محكوم عليه بتكرارها.

وأخيراً فإن الرجل الذى وضع الشعب على كتفيه مسئولية مصر تاريخياً وحاضراً ومستقبلاً هو بدوره أمانة فى ضمير كل مصرى ولنا جميعاً أن نتطلع إليه فوق كل الأزمات وفوق كل الخلافات وفوق كل الاجتهادات.

وفى هذه الظروف فهو الحَكَم قبل أن يكون الحاكم.

وكان الله فى عونه.

Leave a comment