Category Archives: أشياء تتداعي

خلي عنك يا بايا

لم يستوعب المرحوم أبي الخبر الذي تناقله البعض من أن الشيخ الرئيس قد مات. هكذا أخبرني ذات مرة قبل أن يمضي ليقص علي الطريقة التي كانوا يرحبون بها بالشيخ الرئيس حين ينزل إلى قنا.

كانوا يستقبلونه استقبال الفاتحين.

أدركت لاحقا أن الشيخ الرئيس كان أهلا لهذا الاستقبال، فلقد حقق الرجل الأمي إنجازا تعجز أجيال كاملة عن تحقيقه.

في السنوات اللاحقة، سيطرت علي سيرة الشيخ الرئيس.  بت أتلهف سماع أي شاردة أو واردة عنه. كيف كان وكيف أصبح.

أخبرني البعض من كرام البلدة، كيف كان حضور الرجل. “كان يقعد زي الصقر، متسمعش ولا نفس، بس أمم قاعدة”. هذه كلمات ترن في أذني كلمات تذكرت الشيخ الرئيس، قالها لي أحد الراحلين وقد  جاهدت من أجل حفظها، لكن أحيانا يتسرب إلي الشك في أنها قيلت بهذا الترتيب.

حين توفرت لي أشرطته وسمعت صوته وهو  يروي “سيرة عرب أقدمين” انخلع القلب حين سمعته يرتجل. أصبحت أكرر هذا الجملة في سري وعلني: فلما فرغ … من كلامه وتم معني نظامه.

حين قابلته في منامي، نظر إلي في غرابة، عرفته بأنني ابن رجل جلس يستمع إليه مرارا. لم أطل في حديثي فانا في حضرة الشيخ الرئيس. لم أنس التأكيد على: إحنا ولادك يا عم الشيخ. تأملني طويلا وأنشد:

أنا جابر أبو حسين… على كتفي واضع العباية

مخلفتش ولد زين… يقول خلي عنك يا بايا

الميراث

سخرنا منه حين قال إنه قرر ترك تعليمه والذهاب للعمل في الغردقة. كان القرار هو خاتمة جلسات لا تعد ولا تحصى معه، استمعنا خلالها إلى أحلامه بالثراء الفاحش والسيارة والزوجة والبيت الفسيح. كان يكبرنا بسنوات لا أتذكر جملتها الآن.

هو لم يكن في حاجة لاتخاذ مثل هذا القرار. فقد كان ينتمي إلى أسرة ميسورة بمعايير القرية، عشرة قراريط تنفق على بيت صغير مكون من ستة أفراد، فضلا عن بهيمتين.

هذا ناهيك عن غموض طبيعة العمل الذي سيشغله هناك في تلك المدينة السياحية. هل سيعمل في مقهى أم سينظف الأطباق في مطعم؟ أم هل سيحمل- وهو ضعيف البنية- المونة في القرى السياحية التي تبني؟

انقطعت أخباره عنا، لكن بعد سنوات وجدناه قد قدم إلى القرية مرة أخرى ليمتحن الثانوية العامة. نجح والتحق بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية. لم يكن يمكث في قنا كثيرا. كان دائم الذهاب إلى الغردقة. خاض معارك تافهة لبيع القراريط العشرة إلا أن أبيه وقف له بالمرصاد.

وقتها طارت الإشاعات عنه وعن علاقاته “المريبة” مع الأجنبيات. وصلت الإشاعات لحد بيع الجسد. نعم فكما تبيع بعض النساء أجسادهن بالمال، يقدم بعض الرجال (حتى ولو كانوا صعايدة) على نفس الخطوة.

سمعنا أنه تزوج من ألمانية شاركته (أو بمعنى أدق مولت) بعض مشروعاته في المدينة السياحية. تبدل به الحال، أصبح غنيا بشكل مبالغ فيه، ونبذ لهجته الصعيدية وهو يكلم أهل قريته. والأدهى أنه كان يمارس تلك العادة السخيفة وهي مزج الكلمات العربية بكلمات إنجليزية.

في أحد اللقاءات النادرة التي جمعتني به في حلته الجديد لم أخف شعوري بالنفور. وطبعا تجاهلت دعوة “المراكبية” لزيارته في الغردقة. وحين تجمعنا مرة أخرى في صوان عزاء والده، وجدناه وهو يبكي بحرقة شديدة.

خاطبته بمفردات العزاء الشائعة. لكن في منامي أنطلق لساني، وقلت له: حافظ على ورث الرجل الذي رحل

سوء ظن

كانت نظرات “الأخ طويل القامة” إليه توحي بعدم الارتياح.

وكنت أجلس متبرما ملولا حانقا ومشاركا “الأخ طويل القامة” في نظراته المصوبة على “الأخ حليق اللحية”. كنا جمعا ينتمي إلى كليات متنافرة لكن يجمع معظمنا انتمائنا إلي حيز جغرافي واحد.

ظل “الأخ طويل القامة” يتكلم ويترافع وفجأة دعاني أنا و”ع” و”م” إلى حوار جانبي -خارج الغرفة. تلا علينا- وهو يترافع أيضا- شكوكه التي تحوم حول “الأخ حليق اللحية”.

بدا واضحا أن معظم حديث النميمة الجانبي قد بلغ مسامع الأخ المتهم، لكنه طأطئ رأسه نافيا كونه ذلك المخبر السري للأمن.

كنت واحدا من الذين ارتكبوا جريمة التواطؤ ضد “الأخ حليق اللحية”. الحق أقول إنه لم يكن يستحق هذا. أثبت الدهر أنه أكرمنا جميعا. لقد نبذناه لأنه كان عاريا من ثوب قبليتنا المتهتك.

رأينا الوجوه الأخرى موزعة ما بين مشاركة هواجسنا الأمنية وبين التأمين على كلام قلة صغيرة أقسمت ببراءة “الأخ حليق اللحية”.

اقترح “ع”- صاحب الحلول الوسط- بديلا  للحديث عن المظاهرة المزمع تنظيمها. كان الحل بالنسبة إليه هو حفظ بعض أناشيد “أبو مازن”. ولكن قبل أن نشرع في ترديد ما أنشده “أبو مازن” أومئ “ع” إلى “أ” لينقل على مسامعنا خبرا سعيدا.

تحصل “أ” من شقيقه الذي يعمل في الكويت على شريط كاسيت يحوي نشيد الشهيد سيد قطب “أخي أنت حرٌّ وراء السدود” بصوت منشد يطرب القلب.

عجبت لرد فعل “الأخ طويل القامة” الذي لم يبد تحمسا لهذا الخبر.

لاحقا، أخبرنا أخ نعهد الصدق فيه أنه رأي “الأخ طويل القامة” واقفا في عطفة بشارع بين الساريات مع مخبر شهير لأمن الدولة. لم أصدق ولم أكذب. لكن العمر مضى،  وبلغني أن “الأخ طويل القامة” قد عين مدرسا في مدرسة ثانوية. سمعت أنه تزوج من ابنه عضو مشبوه في الحزب الوطني. رأيته عقب عودتي من سفري بصحبة عضو لمجلس شعب انتمى أيضا للحزب الوطني. عجزت عن إخفاء نظرة الاحتقار تجاهه.

أما “الأخ حليق اللحية” الذي رميته بالعمالة للأمن فقد ظل في القلب، تتبعت أخباره وجهاده ما بين قطعة الأرض التي يزرعها ومحاولة الحصول على وظيفة، كل هذا كان يجري في الوقت الذي تحدى فيه شياطين الأنس والجن  للسيطرة على مسجد صغير في ناحية البلدة. حوله إلي خلية نحل في تحفيظ القرآن. حين قابلته مرة أخرى في منامي. اعتذرت له عن سوء الظن، لم يعقب على اعتذاري لكنه أنشد:

أخي: إنني اليوم صلب المراس … أدكُّ صخور الجبال الرواسي

زيارة

ذهلنا

هذا هو الفعل الذي يصف الحالة التي انتابتنا لدي رؤيتنا لها وهي على عتبة الشقة.

لا، الوصف الأدق هو تملكنا الرعب.

تزحزح (أ) قليلا حتى يسمح لها بالدخول، وفيما أخرج (ب) رأسه من الباب حتى يرى هل لمحها أحد وهي تدخل. لم نستفق من صدمة وجودها عندنا نحن العزاب الخمسة. لكن حين نظرنا إليها جميعا، حاولنا أن نعتذر- ولو بالنظرات- عن المزبلة التي نعيش فيها.

قالت لنا إنها طردت من محل إقامتها ولا تعرف غيرنا. نحن أهل في النهاية. قالت وهي عاجزة عن اخفاء نصف الابتسامة التي كللت بها “نحن أهل”.

اطربتنا هذه العبارة. فتاة من قبيلة مناوئة تأتي لتقفز على بحار الدم الممدوة بين قبائلنا لتقول “نحن أهل”.

لو قالها رجل من قبيلتها لأشهرنا عليه سيوفنا. كيف تقارن نفسك يا أعرابي بأصحاب الأرض وزراعها. هكذا كنا نقول في لحظات المعارك.

لكن استفقنا من طربنا المؤقت على وقع الكارثة. أوصاني عمي- أو بمعني أدق أمرني- ألا أدخل صنف النساء في شقته.

لكن الكارثة في الحقيقة لم تكن في عمي الذي يقطن في عمارة مجاورة، الكارثة كانت في أن أهلها قد يعلمون أنها جاءت إلينا نحن أبناء القبيلة المناوئة.

بكرة عرب جاءت إلينا، لا لتشرب الشاي، بل للمبيت.

 (س) كان أسرعنا في امتصاص صدمة زيارتها. دعانا إلى الغرفة الواسعة، لم نتحدث، كنا نعرف ما ينبغي فعله. انطلقنا ننظف الغرفة بسرعة بالغة. هي ستمكثف في هذه الغرفة التي ظننا أننا نظفناها فيما سنتقاسم نحن الغرفتين المتبقيتين والصالة.

لم نكن في حاجة إلى تذكير كل منا بأنها لحمنا ودمنا ومن ثم فمن غير المتوقع أن يلجأ أى منا إلى الحيل الرخيصة في مغازلتها أو محاولة النحنحة معها.

كنا- ولا زلنا- شرفاء، لا نستسيغ الـ “صغرنه” أو التماحيك.  

في اليوم التالي، دخلنا المكان عشية، وجدناها قد حولت شقتنا “الأسطبل” إلى قصر. مكثت لدينا  ثلاثة أيام. كنا نعد أنفاسنا حتى لا نزعجها. اتفقنا على التجمع ساعة المغربية لنجلس كلنا سويا نستمع إليها وهي تتحدث. في أيام معدودة حولت حياتنا إلى حياة.

قابلتها في منامي وهي تسأل عن المسبحة التي أهدتني إياها في الزيارة التاريخية. قلبت في حاجياتي المتناثرة وجدت المسبحة، حملتها إلى قلبي وقد نفضت عنها تراب القبلية والزمن


لا أملك إلا أن أكون سعيدة

غني عن البيان أن “ر.ا” قد خاضت معركة تهون معها كل النزاعات العاطفية السخيفة والتجارب الرومانسية التي نتعسف في إعطائها أكثر مما تستحق.

لكن الجديد في الأمر أنها خرجت من معركتها هذه مبتسمة. صافحتها وجلست قبالتها على كرسي في ذلك المقهى الذي لا أطيقه. كنا في عام 2004، وكنا نفكر في الحاضر وفي مستقبل يعني فقط الرحيل عن المكان. سألتها: أيه الأخبار؟

ردت: لا أملك إلا أن أكون سعيدة.

فتافيت الماس في حلم

كان الجوع قد أنهكنا. وعاقبتنا الشمس بأشعة لم نختبرها من قبل. كنا وقت القيلولة، أسرعنا نحو الجميزة نستظل بها. هدأ سيل العرق قليلا. وفكرت في طعام نجيب به نداء البطن. تراءت لنا البيوت قريبة، واحترنا في أي باب نطرق. حسمت الأمر، وطرقت بقوة- ليست مزعجة- الباب الخشبي الكبير للبيت الأخير. فتحت لي امرأة خمسينية نحيفة. في صوت حنون خاطبتني: مرحب يا وليدي. شجعتني التحية، طلبت جبنة قديمة ورغيف رغفان  وشرائح طماطم. نادت السيدة على ابنتها وفي غضون دقائق قليلة أحضرت لنا طبقا كبيرا بالجبنة القديمة، ومثله يحوي شرائح الطماطم مزينة بالجرجير، وأمدتنا بشفش كبير من ماء الزير. حملت الطعام إلى إبراهيم وعنتر، أكلنا كما لم نأكل من قبل. بعد سنوات، قتل إبراهيم ابنها في مواجهة ثأرية، فيما تزوج عنتر ابنتها. أما أنا فقد كنت أمينا على العهد الذي قطعته لها، اشتريت لها الكفن

الدبلة في حلم

راودني سؤال: هل سينزعون من أصبعه الدبلة الذهبية أم لا؟

هاجس في نفسي أخبرني أنهم سيتركونها هكذا كما هي. لكن سرعان ما ارتدت حقيقة أنهم سينزعونها ليقدمونها إلى زوجته أو خطيبته.  وفجأة تراءت لي ألغاز جديدة، ولماذا لا تكون الدبلة من نصيب امرأة وليست رجلا؟ فكف اليد لا يوحي بكونه من نصيب رجل أم امرأة. كما أنني لم أنجح في التدقيق لمعرفة هوية الكف: هل تنتمي لليد اليمنى أم اليسرى؟ برفق حاولت أن أدفع الجمع الذي يزاحمني في مكاني وأزاحمه في مكانه لكي أحظى برؤية أفضل. خطوت نحو الأمام قليلا، ووجدتني لحظتها على مرمي خطوة واحدة من بقعة الدم التي غطت مدخل الكنيسة

المرايا في حلم

نظرت إليه متبرما، فنحن لم نكمل حفظ “الأنفال” ورغم ذلك انهمك في مطالعة احدي سخافات نجيب محفوظ (المرايا). قال لي: إني عاجز عن الحفظ. بعد 15 عاما قابلته. كان قد حفظ “الأنفال” فيما عجزت أنا عن حفظ المرايا

المعلم في حلم

أذهلتني الوقاحة التي أظهرها (س) في حديثه أو قل ترهاته عن جيل السبعينيات. ألقاهم بكل نقيصة. معقدون نفسيا، مأزومون جنسيا، هذا علاوة على ضحالتهم الفكرية! زلزلني بجملة أنه جيل يلملم أوراقه ويرحل. فكرت في المعلم الذي توارى في مكتبه وأغلق بابه. هل يقصده هذا المغرور؟ فجأة تمثل لنا المعلم، لم يترك لي فرصة في تخمين ما إذا كان سمع سيل الكلمات الدامية هذه. صافحنا بوجه لم يخف ضيقه، وقال لنا: لو كنتم أبنائي حقا لما سخرتم من سجن الماضي

رحيل في حلم

لم أستطع إخفاء تلك الفرحة العارمة التي حلت علي حين رأيتها على بعد أمتار قليلة مني.  كان ذلك في شارع محمود بسيوني. لا أذكر المرة الأخيرة التي رأيتها فيها. أغلب الظن أنها كانت منذ خمس سنوات على الأقل. تقدمنا نحو بعضنا البعض. مددت يدي للمصافحة. هي تجاهلت يدي كلية. وفي نفس اللحظة، وجدتها تضمني إليها بقوة. في الماضي، حين كانت تضمني إليها كنت أنفر من رائحة العطر المميز الذي تضعه (أنا لا أحب العطور). كنت أخبرها بذلك وكانت تضحك. ضحكة صافية نقية، لطالما أدمنتها. لكن في هذه المرة، أرحت أنفي على كتفها، ورحت استنشق رائحة جسد أتعبته أفعال الأطباء. أبعدتها عني قليلا وتأملت وجها منهكا. كان واضحا أن الزمن راوغها وسطر عليه بعض من أعماله. لم أكن أصدق أن هذا وجه لفتاة في الخامسة والثلاثين. وشملني الحزن أكثر حين ارتدت إلي صورها أول معرفتي بها منذ أكثر من عشر سنوات. كانت جسدا لا يتعب من التحرك والكلام. كنا لا نمل من حديثها وعن آخر اكتشافاتها في دنيا الغناء. هي اللي زرعت في داخلي تلك العادات- التي تبدو الآن شاذة- مثل الاستماع إلى عبد الحليم حافظ. تحدثنا لدقائق، بذلت مجهودا حتى لا ألمس أطراف المحزنة التي تعصرنا. سألتني كثيرا، لكني لم أقدم جوابا. كنت أعيد الكرة وأسألها. قالت لي إن اليأس تلبسها من هذا البلدة. وهي الآن تلم حاجياتها للرحيل. وجدتني فجأة أدندن:  ياما بتمنى تاخدني معاك على وادي الأحلام يا حبيبي