بقلم: أحمد زكي عثمان
الاحد 31 آب (أغسطس) 2008
لا تصلح الصدفة البحتة تفسيرا لسبب اختيار موقع مجلة الإيكونوميست البريطانية مقالا يحمل عنوان “إلغاء الخلافة” (صدر في المرة الأولى في عددها بتاريخ الثامن من مارس لعام 1924) للنشر كجزء من عملية تسويق ودعاية لأرشيف المجلة الضخم الذي يحوى أعدادها منذ تأسيسها في سبتمبر من عام 1843. وراء نشر هذا المقال الأرشيفيّ-وهنا أستعير بعضا من مقوّمات نظرية المؤامرة-ثلاثة أسباب أتوهّم أنها شكلت دافع المجلة لإعادة نشر هذا المقال في هذه اللحظة الزمنية بالذات.
أوّل هذه الأسباب هو تعريف القارئ بالسيرة التاريخية لمجلة خطت لنفسها نهجا محكما على مستوى السياسة التحريرية التي يندر أن نجد لها مثيلا في عالم الصحافة المعاصر.
من يتصفح الإيكونوميست سيجد مقالات تحرير(Editorials ) على طول الخط، قلما نجد بينها إسما لكاتب التحليل. المجلة لا تخفي غرامها الواضح بالتحليل، تاركة الحيادية جانبا لتتخندق وراء موقف ما تدافع عنه وتدعو إليه.
في عالم الصحافة (أقصد الغربيّ وليس العربيّ) هناك ملامح مركزية تحدّد طابع وشكل وسيلة النشر هذه أو ذاك. الإيكونوميست مثلا صبغت نفسها-ولا تزال- بخط شديد القوة والعمق في تحليلاتها، هي لا تجري وراء الخبر (لأنها أسبوعية) بل وراء تحليل هذا الخبر. بمعنى آخر هي لا تضع نفسها في الثنائية الهشة التي صنعتها صحافة القارئ الكسول (كلب عضّ رجلا أم رجل عضّ كلبا)، فكلاهما خبر لا معنى له إلا إذا اجتهدنا في البحث عن الأسباب التي دفعت بالكلب أو الرجل كي يعضّ
امتهنت الإيكونوميست-ولا تزال- الرؤية النقدية،لا تخاف في التحليل لومة لائم، تدافع-للأسف-عن إيديولوجيا السوق، لكنها- خلافا للمقاربات الدبلوماسية التي يتبناها سوق الصحافة-مجلة شديدة الوقاحة في الجهر برأيها.
الإيكونوميست هي التي سارعت وسط ذهول العالم من قسوة مشاهد التعذيب وسوء المعاملة في سجن أبو غريب بوضع غلاف عدد 6 مارس 2004 وعليه عبارة “استقل يا رامسفيلد”، متهكمة أشدّ ما يكون التهكّم على سياسات الرجل الذي دفع ببلاده لخوض حرب “القيم” في العراق(دون أن يعني هذا أنها غيّرت رأيها المؤيّد لغزو العراق!).
الإيكونوميست أيضا هي من دعت الإيطاليين إلى طرد رئيس وزرائهم سيلفيو بيرلسيكونى ذلك لأنه كان -ولا يزال-الشخص صاحب الأثر التدميريّ الأكبر في السياسة الإيطالية، كما دعت الأمريكيين إلى اختيار جون كيرى في الانتخابات الرئاسية الأمريكية في 2004 ونبْذ جورج بوش المرشح غير المؤهل.
هذه المجلة البريطانية هي التي سخرت من المخاوف التي يتذرع بها سياسيو اليمين في أوروبا لتقييد الهجرة، مفنّدة هذه المخاوف ومعدّدة مزايا ما يفعله المهاجرون ببلدان شمال المتوسط. للعرب حظهم-الوافر- أيضا من تحليلات الإيكونوميست، سواء كانوا دولا بعينها (السعودية ومصر والسودان مثلا) أو كتلة جغرافية وسكانية وثقافية. في عدد 10 يناير الماضي، خصصت المجلة مقالا تحريريا حمل عنوان «The Arabs: Between fitna, fawda and the deep blue sea”، أقل ما يقال عنه أنه مقال نعي للعالم العربيّ. في هذا العالم العربي يعيش كبار السن حالة عزلة واغتراب، فالعالم لم يصبح مألوفا كما كان، أما الأجيال الجديدة فعزلتها عن العالم الخارجيّ أشدّ ضراوة. ما يجمع هذه الأجيال هو المعاناة من غياب الحقوق والحريات،أغنياء دبيْ ومشردو دارفور سواء، ذلك لأنهم جميعا عرب يشاركون في عالم يخيم عليه اليأس والفشل.
ثاني أسبابي المتوهمة لإعادة نشر مقال إلغاء الخلافة– The abolition of the Caliphate- يكمن في أن المجلة ارتأت أن تذكر الأتراك بماض ما زالوا يتصارعون حوله، فقد اختارت توقيتا لخروج المقال على موقعها الإلكتروني تزامن مع بدء إجراءات المحكمة الدستورية التركية في نظر دعوى قضائية ضد الحزب الحاكم “العدالة والتنمية” والمتهم بممارسة نشاطات مناهضة لإيديولوجية الدولة الرسمية (أي العلمانية).
ورغم صدور قرار المحكمة-إحدى قلاع العلمانية المستحدثة في تركيا، التي أسّست بموجب دستور 1961- برفض دعوى الحظر، إلا أن تفاصيل القرار ذاته توحي بأن المحكمة لم تضع نهاية للسجال والانقسام السياسيّ الحادّ المستمر حول طبيعة خطوط التماس بين السياسيّ بالدينيّ.
والدليل على ذلك أنّ المحكمة لم تحسم قرارها برفض دعوى الحظر بسهولة، فقد كان الفارق بين تأييد الدعوى ورفضها صوت قاض واحد، فقد صوت ستة قضاة من بين 11 قاضيا لصالح حظر الحزب الإسلاميّ(يلزم 7 أصوات لإثبات الاتهامات الموجّهة إلى العدالة والتنمية).
يضاف إلى هذا أنّ المحكمة لم تُخفِ خشيتها علنا من حزب العدالة، فصدر قرارها ممهورا بإنذار مبطن من خلال تقليص المساعدات الحكومية الموجهة للعدالة والتنمية بنسبة النصف.
البعض (القوى الغربية على وجه التحديد) نظر إلى قرار المحكمة برفض الدعوى على أنه تطور إيجابيّ في السياسة التركية، ذلك لأنّ المحكمة تخلصت من عادتها في حظر كل ما تراه تهديدا لعلمانية الدولة وقوميتها، فقد سبق لها-منذ أن ظهرت للعلن في أبريل من عام 1962 -أن حظرت نحو 24 حزبا سياسيا،لأنها تُشكل تهديدا لعلمانية الدولة أو قوميتها (منها حزب الرفاه الذي حظرته 1998 وحظرت نسخته المعدّلة حزب الفضيلة في 2001)،كما تذكر القطاعات العلمانية في تركيا دور المحكمة في السير على درب المؤسسة العسكرية بحظر ما تعتبره المظاهر المناوئة للنظام العلمانيّ مثل الحجاب(حكمها في 1989 بخصوص مخالفة ارتداء الحجاب داخل الجامعات لنصّ الدستور).
تاريخ المحكمة الصلب في الدفاع عن الصيغة العلمانية للدولة، لم يمنع البعض من رؤية وجه آخر للتطور والخاص بالتوجه إلى المحكمة باعتبارها فاعلا مستقلا لا ذيلا للمؤسسة العسكرية. ففي الماضي لم يكن القضاء ساحة الفصل بين الفرقاء الأتراك، بل كانت المؤسسة العسكرية (حاضن العلمانية وحارسها)، التي لم تكن تجرى أيّ مفاوضات أو مناقشات. فقط تتخذ القرار ويعدّ الجيش عدته ويجهز على الساحة السياسية بذريعة الدفاع عن النظام العلمانيّ (حدث هذا ثلاث مرات في 1960 و1971 و1980).
قد يقال إنّ مسألة انضمام تركيا إلى الاتحاد هي التي دفعت بحل سلمى للأزمة، لكن ودون تجاهل مسألة الانضمام هذه -التي باتت القضية المركزية في تركيا خلال السنوات الماضية-فإن البلاد لا تزال تحيى على التركة الإشكالية لمرحلة تأسيس الدولة التركية الحديثة والخطوات التي اتخذت لضمان نجاح عملية التأسيس هذه بما فيها إلغاء الخلافة وتحقيق حيادية الدولة تجاه الدين.
في السنوات الأولى لبناء تركيا اتخذ الرئيس التركيّ آنذاك مصطفى كمال أتاتورك ( تولى الرئاسة من أكتوبر 1923 حتى نوفمبر 1938) مجموعة من القرارات ارتأى أنها ضرورة لبناء الدولة الحديثة، ومنها قراره إلغاء مؤسسة الخلافة (مارس 1924)، مرورا بتدشين مجموعة هائلة من التشريعات التي استهدفت تغيير البنية القانونية المعتمدة على العرف والشريعة (بالترتيب) لصالح مجموعة قانونية تستعير قواعدها من القوانين الأوروبية(قانون عقوبات من إيطاليا وقانون مدنيّ من سويسرا)، فضلا عن تغيير الأبجدية (1928)،وصولا إلى التعديل الدستوريّ في 1937 والذي دفع بالعلمانية لتكون أحد مبادئ الحكم في البلاد.
كان اقتراب القوميين الأتراك في هذه السنوات نكوصا على الممارسات السياسية التي تصاعد فيها توظيف الدين ورفض العلمانية (التحديث) في ظل ما يطلق عليه “حرب الاستقلال” التركية (1919-1923). رأى أتاتورك أن هذا التوظيف لم يخدم استقلال تركيا، لذا سلك الخط المعاكس: محاكاة الغرب إلى أبعد الحدود، بحيث لا يهزمهم من جديد.
الغرب-الذي راهن عليه أتاتورك- رجع بعد عقود من تأسيس الدولة التركية ليقف مساندا أعداءها، أحد التفسيرات التي قدمت لتفسير طبيعة حكم المحكمة الدستورية يكمن في خشيتها أن يؤثر أيّ قرار لحظر الحزب على فرص تركيا ليس فقط دخول الاتحاد الأوروبي ولكن في تحسين الأوضاع الاقتصادية في البلاد.
باتت تركيا اليوم أمام حقائق جديدة، فالغرب ينبذ أيّ محاولة للالتفاف على الديموقراطية حتى لو بزعم الحفاظ على النظام العلمانيّ. كما أن الحقائق الجديدة تستقيم لنهايتها، مع إدراك أن حزب العدالة بانتصاره الساحق في انتخابات 2002 ثم انتخابات 2007 أماط اللثام عن حقيقة رفضتها تركيا مرارا وهى الهشاشة البالغة لأحد مكونات النظام العلمانيّ في البلاد (والممثلة في الأحزاب السياسية العلمانية).
فلم يسبق لتيار سياسيّ-يهدّد علمانية الدولة في تركيا-أن تمكّن بهذه القوّة من أن يكنس نخبة سياسية بأكملها وجيلا سياسيا بأكمله. المثال الأبرز على هذا هو حزب الشعب الجمهوريّ أقدم الأحزاب السياسية الذي تأسس على يد أتاتورك نفسه في 9 سبتمبر 1923، والذي تناوب على رئاسته الشخصيات الكبرى في حياة تركيا المعاصرة عصمت إينونو(رئيس تركيا الثاني) وبولنت أجاويد وحتى دينيز بايكال.
تبقى هنا إشارة عرضية لآخر أسبابي المتوهمة الرامية لتفسير خطوة المجلة في إعادة نشر هذا المقال، وهى أن توقيت هذا النشر وافق شهر رجب (السابع في الشهور الهجرية). ولهذا الشهر أهمية بالغة (ليس على صعيد بعض العبادات مثل صوم بعض أيامه)، ولكن على صعيد أنه الشهر الذي ألغيت فيه الخلافة.
هل كانت خطوة إعادة النشر تذكرة أيضا للمسلمين جميعا بما حدث في عام 1924؟ ربما،خصوصا وأن حزب التحرير الإسلاميّ الذي تأسس على يد الشيخ الفلسطيني تقي الدين النبهاني في خمسينات القرن الماضي جعل هذا الشهر مناسبة للتذكير بسقوط الخلافة والعمل على إحيائها.
في العام الماضي نظم الحزب مناسبة للبحث في كيفية إعادة الخلافة، حضرها 100 ألف شخص، أغلب الظن أنه التجمع الأكثر حشدا في التاريخ المعاصر من أجل الخلافة.
لكن، وبغض النظر عن أسبابي المتوهمة لإعادة نشر المقال، فإن هناك حقيقة ينبغي أن ينظر إليها، وهى مضمون ما احتواه المقال من تفسيرات وتوقعات.
راهن المقال على حقيقة تتمثل في أنّ “نبذ الأتراك الخلافة يعدّ بمثابة إعلان عن حقبة تتوسع فيها الأفكار الغربية على ما عداها في العالم غير الغربيّ، الأفكار الخاصة بالحكم الذاتي والسيادة الوطنية“.
الخلافة إذن شكل قديم للحكم لم يلبث أن سقط بمجرد أن ظهر بديل أقوى وأكثر حيوية. هذا البديل هو الذي يقدم حلاّ لعوامل الضعف الكامنة في الخلافة وأهمّها غياب الديموقراطية.
الخلافة-حسب الإيكونوميست- “ملكية مطلقة” تفرض نفسها على “عالم إسلاميّ متّحد”. لا يوجد في هذه المؤسسة مكان للدولة القومية “الجمهورية أو الملكية الدستورية”، لا يوجد مكان لمفهوم أو ممارسة السيادة عن طريق نوّاب لبرلمان منتخب من الشعب.
إلغاء الخلافة، أو الرابطة الروحية كان نتيجة منطقية لسياسة منظمة من قبل القوميين الأتراك، فقد كانت عائقا أمام مصطفى أتاتورك ورفاقه الذين رأوا شيئين، الأول أنّ “الأمة التركية” ينبغي أن تبسط سيادتها على أراضيها (التي تراها)، والثانية هي أنها غير مسئولة عن أيّة أوضاع خارج هذه الأراضي.
خلال القرن الذي سبق سقوطها، كانت الدولة العثمانية تبسط سيطرتها على أمم شتى في أوروبا وآسيا وأفريقيا، تسيطر على مسلمين ومسيحيين ويهود وغيرهم، سيطرة من خلال نظام حكم غير كفء، سيادة ناقصة بمعنى آخر، وقوّتها مجرد ظلال. فطن القوميون الأتراك إلى أنّ الخلافة تركة ثقيلة للغاية ويستحيل دعمها، ذلك لأنها أضحت هشة وغير قابلة للحياة.
هذا ما رأته المجلة سببا في إلغاء الخلافة، لكن ماذا عن التوقعات التي ساقها التحليل؟ بالنسبة للإيكونوميست فالسؤال المركزيّ هو علاقات الدولة التركية الجديدة (العلمانية)بمستعمراتها السابقة (في شمال أفريقيا) ودول أخرى من العالم الإسلامي (مثل إيران وأفغانستان).
خلصت إجابة التحليل عن هذا السؤال بأنه لن يحدث أيّ شيء ضار في العلاقات، والسبب أن هذه الدول تشهد بدورها صحوة في “الوعي القوميّ” وليس الدينيّ، وشعوب هذه الدول تتبع خُطى تركيا في إعادة تحديد خطوطها السياسية وراء بناء الدولة القومية ذات السيادة، وهو ما أسمته المجلة بالتغير العميق في السياسة داخل العالم الإسلاميّ.
30.064742
31.249509