محمود السعدني ومصر من تاني

من أجمل كتب التاريخ التي قرأت “مصر من تاني” لمحمود السعدني.

وهو كتاب تنطبق عليه مقولة أوسكار وايلد من أن أى أحمق بإمكانه صنع التاريخ، ولكنه يحتاج إلى عبقري لكتابته.

[A] ny fool can make history, but it takes a genius to write it.

 كتاب السعدني هذا ساخر وبسيط. ولكن حدث أن أشاد به شخصا في قامة غالي شكري. لكن سطور السعدني في ظني ليست سطورا في التاريخ بقدر ما هي عن التاريخ أو بمعنى آخر الطريقة التي جرى بها كتابة التاريخ المصري.

(لو أردتم كتابا عن التاريخ المصري، فأذهبوا إلى سندباد مصري لحسين فوزي النجار. أكثر الكتب التي قرأتها في حياتي إلهاما).

في هذا الكتاب يتناول السعدني علاقة المصري الملتبسة بحكامه. هو يكرر المقولات السائدة لدى معظم  المصريين. فكل حاكم في بلادنا (أو كل خليفة)- فى التاريخ القديم أو الحديث- هو مصدر الحكمة وينبوع المعرفة ونموذج الكمال. ولكن بمجرد موت هذا الحاكم تتحول الصورة كلية.

خذ مثلا الذي حدث مع جمال عبد الناصر:

“ولكن لأنه مات فقد لعنوا سنسفيل أجداده والصقوا به كل تهمة, ورموه بكل نقيصة. مع أننا جميعا الذين نسمع الشتائم ونقرأ سيل الاتهامات. كنا أحياء نرزق ونصفق لأمجاد عبد الناصر.”

هذا سيناريو تكرر كثيرا. وكان الحكام والرموز السياسية والوطنية يدمنونه. سقط الحاكم، فلابد من إعلاء شأن الحاكم الجديد بالطعن على القديم. محمد أبو الذهب الذي انقلب على سيده على بك الكبير ثم رماه بكل نقيصة.  وكما يقول صلاح عيسى في “الكارثة التي تهددنا”، افقد دأبت بعض لرموز السياسية على اغتيال تاريخ من سبقها. مصطفي كامل الذي اتهم أحمد عرابي بالخيانة. وهناك بعض الإشارات التي توحي بضيق صدر الزعيم الكبير محمد فريد من الطريقة التي كان يدير بها مصطفي كامل الدعوة للاستقلال المصري. ولا ننسى طبعا جمال عبد الناصر الذي طعن في سعد زغلول ورأى في “الميثاق” أنه ركب ” قمة الموجة الثورية الجديدة”.

والأمور دول. فحين وصل السادات إلى سدة الحكم قال في عبد الناصر ما قاله مالك في الخمر، يكفي فقط الإشارة إلى جملة: “لقد ترك لي عبد الناصر تركة من الحقد لا أجد لها إلى الآن حلاً”، التي أسهب كتبة صحفه في توظيفها في كل مقالة يخطونها.

+++

فى سيرة التاريخ المصري، ينحاز السعدني لمصر الناصرية التي رأى أنها لم تكن الرئيس ونوابه ومدير المخابرات وأجهزة الإتحاد الاشتراكي. لكنها كانت العمال والفلاحين والرأسمالية الوطنية والجنود والمثقفين.

 قراءة متعسفة ربما ستؤلم بعضا ممن احتضنتهم أسوار السجون الناصرية ونهشت أجسادهم من قبل زبانية السجن الحربي.

عهد السادات-وفقا للسعدني- لم يكن هو عهد الرئيس أو زعماء المنابر أو تجار الشنطة وأصحاب بوتيكات شارع الشواربي ومالكي الكباريهات ورواد الحانات. لكنها كانت أيضا مصر ملايين الشحاتين والمتسولين الذين عانوا المرض وخيبة الأمل والجوع. هم أحد نتائج الأزمة، و ليسوا على الإطلاق سببا من أسبابها.

في الكتاب، يقلب السعدني المواجع، ولكن بسخرية. (شر البلية ما يضحك). تحدث مثلا عن أعيان مصر الذين دعوا المعز لدين الله الفاطمي حتى يأت إلى مصر. وجاء المعز وسحق الفلاحين من الخراج الذي أمرهم بدفعه.

 أبناء هؤلاء الأعيان هم الذين ذهبوا لاحقا إلى محمد على عارضين عليه حكم البلاد. وأحفادهم هم الذين استنجدوا بالجيش الإنجليزي للقضاء على عرابي. ومن نسلهم خرج من يطلب من السادات أن يفتح البلاد للبضائع المستوردة في انفتاح السداح مداح.

يذكر كاتبنا الساخر أن بيرم التونسي هو أول من التفت إلى حقيقة تفاوت مستوى المعيشة بين الناس، وبينما كان البعض يزداد تخمة، كان الآخرون يبحثون عن طعامهم وسط أكوام القمامة.

+++

في خاتمة المقدمة يدعو  صاحب “مصر من تاني” قائلا:

طوبى للصياع وطوبى للمتشردين و.. طوبة للبصاصين و المخبرين

One response to “محمود السعدني ومصر من تاني

  1. Pingback: محمود السعدني: الطعام محركا للتاريخ « squaresofdissent

Leave a comment